❞ الطريق من القاهرة إلى مرسى مطروح بالسيارة طريق طويل ممل تتشابه فيه المناظر على مدى ساعات .. آفاق ممتدة من الرمال و شريط أزرق من البحر يبدو و يختفي .. و اهتزازات صاعدة هابطة تهبط منها الأحشاء ، و يُصاب الرأس بالدوار ..
و لولا ذلك الرفيق الثِرثار ربما كان السائق قد أغفَى على مقعد القيادة نائماً من فرط الرتابة .
و في مثل هذه المسافات الطويلة تحلو الثرثرة ..
و صاحبنا الثرثار رجل قلِق متوتر لا يعجبه شيء و لا يرى من الإنسان إلا عيوبه ، و لا يرى في الدنيا إلا جوانبها السالبة و لا يرى في الكون شيئاً جديراً بالحمد ..
فالكون مشروع فاشل ، و الحياة صفقة خاسرة نهايتها الموت .. و العَطَب و الفساد يكتنف كل شيء ..
فالورد يذبُل .. و الشمس تأفُل .. و الجسد يشيخ .. و الأرض تتبدل .. و لا شيء يبقى على حاله .. و الإنسان يشرب دموعه مع كل ضحكة .. فأين الحكمة .. و أين الإبداع .. و أين الجمال .. و علام ذلك التسبيح شكراً و حمداً .. و علام تعفير الجباه سجوداً و ركوعاً .. و كيف نشكر الخالق على الميكروب و السرطان و الزلزال و الموت غرقاً و حرقاً ..
أما صاحبنا الآخر فهو على النقيض ، رجل مطمئن تكسوه دائماً ملامح الرضا و الحمد و القناعة ..
و في رأيه أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان .. و أن الله خلق الكون و الإنسان على أحسن صورة ..
و أن الموت و الشيخوخة و المرض .. هي ظِلال لابد منها لكمال الصورة .. فما كانت الصحة لِتُعرَف لولا المرض .. بل إن المرض يعطي للإنسان فيما يُعطي .. المناعة و الحصانة .. كما أنه يعلمه الصبر و الجَلَد .. ثم هو الذي يخلق المناسبة للرحمة و التعاطف و البذل بين الناس .. و حُكمِهِ حُكم لَسعَة البرد و الحر التي تنبه الجسد و تستفزه ليحتشد .. و لو أخلد الإنسان إلى إعتدال دائم لاسترخت خلايا جسده و هلكت من الخمول و الترف ..
و شُكراً للميكروب فهو يخلق للعقل وظيفة عاجلة ليفكر و يبتكر و يحتال على الإنقاذ .. و هل البنسلين و الكلورميسين و الأريومسين و كافة عائلة المضادات الحيوية إلا مخلفات ميكروبات .. !
و هل يحصل النبات على سماده الطبيعي إلا بميكروبات في درنات الجذور تثبت النيتروجين و تسلمه لنبات سماداً جاهزاً .. !
** إن للشر دائماً وجهاً آخر خَفيّاً .. هو عين الخير .
و لولا الزلازل و البراكين التي تُنَفِس عن الضغط الزائد في باطن الأرض لانفجرت الأرض بِمَن عليها من ملاين السنين .
و كما يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي : كلما ازداد القوس إعوجاجاً أعطى السهم تَوتُراً و اندِفاعاً أكثر ليصيب هدفه ، و ذلك هو الكمال الذي يَخفَى في باطن النقص .
و لهذا قال الغزالي : إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و أن الدنيا بما فيها من نقص هي أكمل مثال لدنيا زائلة .
● قال الرجل الثِرثار :
كل هذا كلام في كلام .. و أُحِب أن أرى الآن لو كُسِرَت ذراعُك أو كُفَ بَصرُك .. ماذا تقول .. ؟
● قال الرجل الهادئ :
أقول الحمد لله لطفت يا رب في قضائك و أبقيت لي ذراعاً سليمة .. و أخذت بصري و أبقيت سمعي .. فشكراً على ما أبقيت .. و لك الحكمة فيما أخذت .
● قال الثرثار :
هذا دجل صريح .. و أراهن أنك أكبر دجال فيما تقول .. و أُراهن أن الموقف سوف يختلف كثيراً إذا أصابك شيء من هذا .. و أنك سوف تَسُب الدين و المِلّة .
● قال الرجل المطمئن :
حاشا لله أن أفعل شيئاً من ذلك .. و أنا أُحسِن الظن بالله .. و أرى جماله في كل شيء .. و أرى رحمته تسبق عدله .. و لُطفِه يسبق رحمته في كل قضاء .. و لا أراه ظالِماً أبداً .. تعالى ربي عن الظُلم عُلُواً كبيراً .
و لم يُجِب الرجل الثِرثار .. فقد وقعت العربة في مطب فجأة و انحرفت عجلة القيادة .. و ظهرت عربة قادمة بسرعة من الإتجاه الآخر .. و فقد السائق السيطرة على توجيه عربته تماماً ..
و رآها تخرج من يده إلى خارج الطريق المرصوف ثم تميل ميلاً شديداً لتنقلب و تبدأ في الدوران حول نفسها عدة مرات لتستقر على بعد مائة متر في الرمال .
و خرج الرجل الثرثار شاحِباً يرتجف و هو يتحسس نفسه و يدهش كيف لم يُصَب بِخدش .. أما الرجل المطمئن فكان فاقد الوعي يتنفس بصعوبة و يخرج من فمه شخير .
و انطلق الرجل في فزع إلى أقرب نقطة مرور و اتصل تليفونياً بأقرب وحدة صحية ، و كانت وحدة العلمين على بُعد عشرة كيلو مترات .
و جاءت عربة الإسعاف .. و قال طبيب الوحدة بعد الفحص الأوَلي إن هناك تمزُقاً بالكلية اليُمنى و نزيفاً ، و إن الحل الوحيد هو نقل المصاب فوراً إلى الإسكندرية و إجراء جراحة إستئصال عاجلة للكلية ..
و في الغُرفة رقم "7" بعنبر الجراحة بمستشفى الجامعة .. كان المُصاب مسجى على فراشه بعد أن خرج من غرفة العمليات .. و كان لا يزال في غفوة البنج .
و إلى جواره جلس صديقه الثرثار في انتظار اللحظة التي يفتح فيها عينيه ، و كان أول ما قال الرجل حينما فتح عينيه :
● الحمد لله .
و كان الرجل الثرثار يجلس مبهوتاً ، و كان لا يزال يرتجف من هول ما رأى و ما سَمِع و هو يتأرجح على عتبة الموت .. و كان لا يزال يتحسس جسده السليم و لا يُصدِق كيف خرج سليماً ، و كان الطبيب يتحدث بالتليفون إلى قسم الباثولوجي .
و وضع الطبيب التليفون و ظهرت على وجهه دهشة لا حد لها ..
قال الطبيب و قد اتسعت حدقتاه :
● هذا أمر عجيب .. أمرٌ لا يُصَدَق .!
● قال الرجل الثرثار .. كيف .. ماذا تعني .. ماذا حدث ؟
● قال الطبيب و هو يبتلع لعابه من الإنفعال :
الكلية التي أستُئصِلَت ..
● قال الرجل الثرثار في فضول :
ما خطبها .. ؟
● قال الطبيب :
يقول تقرير الباثولوجي .. إنه كان بها سرطان وليد في أول مراحله .
و خيَّم الصمت على الثلاثة برهة و كأن على رؤسهم الطير ..
● ثم استأنف الطبيب الكلام :
لولا هذا الحادث الذي إستأصلنا بسببه الكلية لكان المصاب سيهلك بالسرطان حتماً .. هذا عجيب .. هذا حادث إنقاذ .. هذا حادث مُلاطَفة .. و ليس نكبة .
إن ما حدث كان خيراً لا حد له ..
● و ابتسم الرجل المطمئن إبتسامة واهنة في فراشه و قال : الحمد لله .
إن الله يعاملني بنياتي ، فقد كنت دائماً أُحسِن الظن به .
و التفت إلى صاحبه الثرثار قائلا :
أرأيت يا صديقي .. فذلك هو الخير الباطن في الشر ..
و سكت الطبيب ساهِماً .
و بُهِتَ الذي كَفَر .. فلم يجد ما يقول ..
*****
قصة / ملاطفة
من كتـــاب / نقـطــة الغـليــان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الطريق من القاهرة إلى مرسى مطروح بالسيارة طريق طويل ممل تتشابه فيه المناظر على مدى ساعات .. آفاق ممتدة من الرمال و شريط أزرق من البحر يبدو و يختفي .. و اهتزازات صاعدة هابطة تهبط منها الأحشاء ، و يُصاب الرأس بالدوار ..
و لولا ذلك الرفيق الثِرثار ربما كان السائق قد أغفَى على مقعد القيادة نائماً من فرط الرتابة .
و في مثل هذه المسافات الطويلة تحلو الثرثرة ..
و صاحبنا الثرثار رجل قلِق متوتر لا يعجبه شيء و لا يرى من الإنسان إلا عيوبه ، و لا يرى في الدنيا إلا جوانبها السالبة و لا يرى في الكون شيئاً جديراً بالحمد ..
فالكون مشروع فاشل ، و الحياة صفقة خاسرة نهايتها الموت .. و العَطَب و الفساد يكتنف كل شيء ..
فالورد يذبُل .. و الشمس تأفُل .. و الجسد يشيخ .. و الأرض تتبدل .. و لا شيء يبقى على حاله .. و الإنسان يشرب دموعه مع كل ضحكة .. فأين الحكمة .. و أين الإبداع .. و أين الجمال .. و علام ذلك التسبيح شكراً و حمداً .. و علام تعفير الجباه سجوداً و ركوعاً .. و كيف نشكر الخالق على الميكروب و السرطان و الزلزال و الموت غرقاً و حرقاً ..
أما صاحبنا الآخر فهو على النقيض ، رجل مطمئن تكسوه دائماً ملامح الرضا و الحمد و القناعة ..
و في رأيه أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان .. و أن الله خلق الكون و الإنسان على أحسن صورة ..
و أن الموت و الشيخوخة و المرض .. هي ظِلال لابد منها لكمال الصورة .. فما كانت الصحة لِتُعرَف لولا المرض .. بل إن المرض يعطي للإنسان فيما يُعطي .. المناعة و الحصانة .. كما أنه يعلمه الصبر و الجَلَد .. ثم هو الذي يخلق المناسبة للرحمة و التعاطف و البذل بين الناس .. و حُكمِهِ حُكم لَسعَة البرد و الحر التي تنبه الجسد و تستفزه ليحتشد .. و لو أخلد الإنسان إلى إعتدال دائم لاسترخت خلايا جسده و هلكت من الخمول و الترف ..
و شُكراً للميكروب فهو يخلق للعقل وظيفة عاجلة ليفكر و يبتكر و يحتال على الإنقاذ .. و هل البنسلين و الكلورميسين و الأريومسين و كافة عائلة المضادات الحيوية إلا مخلفات ميكروبات .. !
و هل يحصل النبات على سماده الطبيعي إلا بميكروبات في درنات الجذور تثبت النيتروجين و تسلمه لنبات سماداً جاهزاً .. !
إن للشر دائماً وجهاً آخر خَفيّاً .. هو عين الخير .
و لولا الزلازل و البراكين التي تُنَفِس عن الضغط الزائد في باطن الأرض لانفجرت الأرض بِمَن عليها من ملاين السنين .
و كما يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي : كلما ازداد القوس إعوجاجاً أعطى السهم تَوتُراً و اندِفاعاً أكثر ليصيب هدفه ، و ذلك هو الكمال الذي يَخفَى في باطن النقص .
و لهذا قال الغزالي : إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و أن الدنيا بما فيها من نقص هي أكمل مثال لدنيا زائلة .
● قال الرجل الثِرثار :
كل هذا كلام في كلام .. و أُحِب أن أرى الآن لو كُسِرَت ذراعُك أو كُفَ بَصرُك .. ماذا تقول .. ؟
● قال الرجل الهادئ :
أقول الحمد لله لطفت يا رب في قضائك و أبقيت لي ذراعاً سليمة .. و أخذت بصري و أبقيت سمعي .. فشكراً على ما أبقيت .. و لك الحكمة فيما أخذت .
● قال الثرثار :
هذا دجل صريح .. و أراهن أنك أكبر دجال فيما تقول .. و أُراهن أن الموقف سوف يختلف كثيراً إذا أصابك شيء من هذا .. و أنك سوف تَسُب الدين و المِلّة .
● قال الرجل المطمئن :
حاشا لله أن أفعل شيئاً من ذلك .. و أنا أُحسِن الظن بالله .. و أرى جماله في كل شيء .. و أرى رحمته تسبق عدله .. و لُطفِه يسبق رحمته في كل قضاء .. و لا أراه ظالِماً أبداً .. تعالى ربي عن الظُلم عُلُواً كبيراً .
و لم يُجِب الرجل الثِرثار .. فقد وقعت العربة في مطب فجأة و انحرفت عجلة القيادة .. و ظهرت عربة قادمة بسرعة من الإتجاه الآخر .. و فقد السائق السيطرة على توجيه عربته تماماً ..
و رآها تخرج من يده إلى خارج الطريق المرصوف ثم تميل ميلاً شديداً لتنقلب و تبدأ في الدوران حول نفسها عدة مرات لتستقر على بعد مائة متر في الرمال .
و خرج الرجل الثرثار شاحِباً يرتجف و هو يتحسس نفسه و يدهش كيف لم يُصَب بِخدش .. أما الرجل المطمئن فكان فاقد الوعي يتنفس بصعوبة و يخرج من فمه شخير .
و انطلق الرجل في فزع إلى أقرب نقطة مرور و اتصل تليفونياً بأقرب وحدة صحية ، و كانت وحدة العلمين على بُعد عشرة كيلو مترات .
و جاءت عربة الإسعاف .. و قال طبيب الوحدة بعد الفحص الأوَلي إن هناك تمزُقاً بالكلية اليُمنى و نزيفاً ، و إن الحل الوحيد هو نقل المصاب فوراً إلى الإسكندرية و إجراء جراحة إستئصال عاجلة للكلية ..
و في الغُرفة رقم "7" بعنبر الجراحة بمستشفى الجامعة .. كان المُصاب مسجى على فراشه بعد أن خرج من غرفة العمليات .. و كان لا يزال في غفوة البنج .
و إلى جواره جلس صديقه الثرثار في انتظار اللحظة التي يفتح فيها عينيه ، و كان أول ما قال الرجل حينما فتح عينيه :
● الحمد لله .
و كان الرجل الثرثار يجلس مبهوتاً ، و كان لا يزال يرتجف من هول ما رأى و ما سَمِع و هو يتأرجح على عتبة الموت .. و كان لا يزال يتحسس جسده السليم و لا يُصدِق كيف خرج سليماً ، و كان الطبيب يتحدث بالتليفون إلى قسم الباثولوجي .
و وضع الطبيب التليفون و ظهرت على وجهه دهشة لا حد لها ..
قال الطبيب و قد اتسعت حدقتاه :
● هذا أمر عجيب .. أمرٌ لا يُصَدَق .!
● قال الرجل الثرثار .. كيف .. ماذا تعني .. ماذا حدث ؟
● قال الطبيب و هو يبتلع لعابه من الإنفعال :
الكلية التي أستُئصِلَت ..
● قال الرجل الثرثار في فضول :
ما خطبها .. ؟
● قال الطبيب :
يقول تقرير الباثولوجي .. إنه كان بها سرطان وليد في أول مراحله .
و خيَّم الصمت على الثلاثة برهة و كأن على رؤسهم الطير ..
● ثم استأنف الطبيب الكلام :
لولا هذا الحادث الذي إستأصلنا بسببه الكلية لكان المصاب سيهلك بالسرطان حتماً .. هذا عجيب .. هذا حادث إنقاذ .. هذا حادث مُلاطَفة .. و ليس نكبة .
إن ما حدث كان خيراً لا حد له ..
● و ابتسم الرجل المطمئن إبتسامة واهنة في فراشه و قال : الحمد لله .
إن الله يعاملني بنياتي ، فقد كنت دائماً أُحسِن الظن به .
و التفت إلى صاحبه الثرثار قائلا :
أرأيت يا صديقي .. فذلك هو الخير الباطن في الشر ..
و سكت الطبيب ساهِماً .
و بُهِتَ الذي كَفَر .. فلم يجد ما يقول ..
قصة / ملاطفة
من كتـــاب / نقـطــة الغـليــان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
قال صاحبي ساخرًا:
كيف تزعمون أن إلهكم كامل ورحمن ورحيم وكريم ورءوف وهو قد خلق كل هذه الشرور في العالم .. المرض والشيخوخة والموت والزلزال والبركان والميكروب والسم والحر والزمهرير وآلام السرطان التي لا تعفي الطفل الوليد ولا الشيخ الطاعن.
إذا كان الله محبة وجمالا وخيرا فكيف يخلق الكراهية والقبح والشر .
والمشكلة التي أثارها صاحبي من المشاكل الأساسية في الفلسفة وقد انقسمت حولها مدارس الفكر واختلفت حولها الآراء.
ونحن نقول أن الله كله رحمة وكله خير وأنه لم يأمر بالشر ولكنه سمح به لحكمة.
الله لا يأمر إلا بالعدل والمحبة والإحسان والعفو والخير وهو لا يرضى إلا بالطيب.
فلماذا ترك الظالم يظلم والقاتل يقتل والسارق يسرق؟
لأن الله أرادنا أحرارا .. والحرية اقتضت الخطأ ولا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب .. والاختيار الحر بين المعصية والطاعة.
وكان في قدرة الله أن يجعلنا جميعًا أخيارا وذلك بأن يقهرنا على الطاعة قهرا وكان ذلك يقتضي أن يسلبنا حرية الاختيار.
وفي دستور الله وسنته أن الحرية مع الألم أكرم للإنسان من العبودية مع السعادة .. ولهذا تركنا نخطيء ونتألم ونتعلم وهذه هي الحكمة في سماحه بالشر.
ومع ذلك فإن النظر المنصف المحايد سوف يكشف لنا أن الخير في الوجود هو القاعدة وأن الشر هو الاستثناء ..
فالصحة هي القاعدة والمرض استثناء ونحن نقضي معظم سنوات عمرنا في صحة ولا يزورنا المرض إلا أياما قليلة .. وبالمثل الزلازل هي في مجملها بضع دقائق في عمر الكرة الأرضية الذي يحصى بملايين السنين وكذلك البراكين وكذلك الحروب هي تشنجات قصيرة في حياة الأمم بين فترات سلام طويلة ممتدة.
ثم أننا نرى لكل شيء وجه خير فالمرض يخلف وقاية والألم يربي الصلابة والجلد والتحمل والزلازل تنفس عن الضغط المكبوت في داخل الكرة الأرضية وتحمي القشرة الأرضية من الانفجار وتعيد الجبال إلى أماكنها كأحزمة وثقالات تثبت القشرة الأرضية في مكانها، والبراكين تنفث المعادن والثروات الخبيثة الباطنة وتكسو الأرض بتربة بركانية خصبة .. والحروب تدمج الأمم وتلقح بينها وتجمعها في كتل وأحلاف ثم في عصبة أمم ثم في مجلس أمن هو بمثابة محكمة عالمية للتشاكي والتصالح .. وأعظم الاختراعات خرجت أثناء الحروب .. البنسلين الذرة الصواريخ الطائرات النفاثة كلها خرجت من أتون الحروب.
ومن سم الثعبان يخرج الترياق.
ومن الميكروب نصنع اللقاح.
ولولا أن أجدادنا ماتوا لما كنا الآن في مناصبنا، والشر في الكون كالظل في الصورة إذا اقتربت منه خيل إليك أنه عيب ونقص في الصورة .. ولكن إذا ابتعدت ونظرت إلى الصورة ككل نظرة شاملة اكتشفت أنه ضروري ولا غنى عنه وأنه يؤدي وظيفة جمالية في البناء العام للصورة.
وهل كان يمكننا أن نعرف الصحة لولا المرض .. إن الصحة تظل تاجا على رؤوسنا لا نراه ولا نعرفه إلا حينما نمرض.
وبالمثل ما كان ممكنا أن نعرف الجمال لولا القبح ولا الوضع الطبيعي لولا االشاذ.
ولهذا يقول الفيلسوف أبو حامد الغزالي: إن نقص الكون هو عين كماله مثل اعوجاج القوس هو عين صلاحيته ولو أنه استقام لما رمى.
وظيفة أخرى للمشقات والآلام .. أنها هي التي تفرز الناس وتكشف معادنهم.
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
إنها الامتحان الذي نعرف به أنفسنا .. والابتلاء الذي تتحدد به مراتبنا عند الله.
ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها فالموت ليس نهاية القص ولكن بدايتها.
ولا يجوز أن نحكم على مسرحية من فصل واحد ولا أن نرفض كتابا لأن الصفحة الأولى لم تعجبنا.
الحكم هنا ناقص..
ولا يمكن استطلاع الحكمة كلها إلا في آخر المطاف .. ثم ما هو البديل الذي يتصوره السائل الذي يسخر منا؟!
هل يريد أن يعيش حياة بلا موت بلا مرض بلا شيخوخة بلا نقص بلا عجز بلا قيود بلا أحزان بلا آلام.
هل يطلب كمالا مطلقا؟!
ولكن الكمال المطلق لله.
والكامل واحد لا يتعدد .. ولماذا يتعدد .. وماذا ينقصه ليجده في واحد آخر غيره؟!
معنى هذا أن صاحبنا لن يرضيه إلا أن يكون هو الله ذاته وهو التطاول بعينه.
ودعونا نسخر منه بدورنا .. هو وأمثاله ممن لا يعجبهم شيء.
هؤلاء الذين يريدونها جنة ..
ماذا فعلوا ليستحقونها جنة؟
وماذا قدم صاحبنا للإنسانية ليجعل من نفسه الله الواحد القهار الذي يقول للشيء كن فيكون.
إن جدتي أكثر ذكاء من الأستاذ الدكتور المتخرج من فرنسا حينما تقول في بساطة:
"خير من الله شر من نفوسنا".
إنها كلمات قليلة ولكنها تلخيص أمين للمشكلة كلها ..
فالله أرسل الرياح وأجرى النهر ولكن ربان السفينة الجشع ملأ سفينته بالناس والبضائع بأكثر مما تحتمل فغرقت فمضى يسب الله والقدر .. وما ذنب الله؟! .. الله أرسل الرياح رخاء وأجرى النهر خيرا .. ولكن جشع النفوس وطمعها هو الذي قلب هذا الخير شرا.
ما أصدقها من كلمات جميلة طيبة.
"خير من الله شر من نفوسنا".
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
لماذا خلق الله الشر؟
قال صاحبي ساخرًا:
كيف تزعمون أن إلهكم كامل ورحمن ورحيم وكريم ورءوف وهو قد خلق كل هذه الشرور في العالم .. المرض والشيخوخة والموت والزلزال والبركان والميكروب والسم والحر والزمهرير وآلام السرطان التي لا تعفي الطفل الوليد ولا الشيخ الطاعن.
إذا كان الله محبة وجمالا وخيرا فكيف يخلق الكراهية والقبح والشر .
والمشكلة التي أثارها صاحبي من المشاكل الأساسية في الفلسفة وقد انقسمت حولها مدارس الفكر واختلفت حولها الآراء.
ونحن نقول أن الله كله رحمة وكله خير وأنه لم يأمر بالشر ولكنه سمح به لحكمة.
الله لا يأمر إلا بالعدل والمحبة والإحسان والعفو والخير وهو لا يرضى إلا بالطيب.
فلماذا ترك الظالم يظلم والقاتل يقتل والسارق يسرق؟
لأن الله أرادنا أحرارا .. والحرية اقتضت الخطأ ولا معنى للحرية دون أن يكون لنا حق التجربة والخطأ والصواب .. والاختيار الحر بين المعصية والطاعة.
وكان في قدرة الله أن يجعلنا جميعًا أخيارا وذلك بأن يقهرنا على الطاعة قهرا وكان ذلك يقتضي أن يسلبنا حرية الاختيار.
وفي دستور الله وسنته أن الحرية مع الألم أكرم للإنسان من العبودية مع السعادة .. ولهذا تركنا نخطيء ونتألم ونتعلم وهذه هي الحكمة في سماحه بالشر.
ومع ذلك فإن النظر المنصف المحايد سوف يكشف لنا أن الخير في الوجود هو القاعدة وأن الشر هو الاستثناء ..
فالصحة هي القاعدة والمرض استثناء ونحن نقضي معظم سنوات عمرنا في صحة ولا يزورنا المرض إلا أياما قليلة .. وبالمثل الزلازل هي في مجملها بضع دقائق في عمر الكرة الأرضية الذي يحصى بملايين السنين وكذلك البراكين وكذلك الحروب هي تشنجات قصيرة في حياة الأمم بين فترات سلام طويلة ممتدة.
ثم أننا نرى لكل شيء وجه خير فالمرض يخلف وقاية والألم يربي الصلابة والجلد والتحمل والزلازل تنفس عن الضغط المكبوت في داخل الكرة الأرضية وتحمي القشرة الأرضية من الانفجار وتعيد الجبال إلى أماكنها كأحزمة وثقالات تثبت القشرة الأرضية في مكانها، والبراكين تنفث المعادن والثروات الخبيثة الباطنة وتكسو الأرض بتربة بركانية خصبة .. والحروب تدمج الأمم وتلقح بينها وتجمعها في كتل وأحلاف ثم في عصبة أمم ثم في مجلس أمن هو بمثابة محكمة عالمية للتشاكي والتصالح .. وأعظم الاختراعات خرجت أثناء الحروب .. البنسلين الذرة الصواريخ الطائرات النفاثة كلها خرجت من أتون الحروب.
ومن سم الثعبان يخرج الترياق.
ومن الميكروب نصنع اللقاح.
ولولا أن أجدادنا ماتوا لما كنا الآن في مناصبنا، والشر في الكون كالظل في الصورة إذا اقتربت منه خيل إليك أنه عيب ونقص في الصورة .. ولكن إذا ابتعدت ونظرت إلى الصورة ككل نظرة شاملة اكتشفت أنه ضروري ولا غنى عنه وأنه يؤدي وظيفة جمالية في البناء العام للصورة.
وهل كان يمكننا أن نعرف الصحة لولا المرض .. إن الصحة تظل تاجا على رؤوسنا لا نراه ولا نعرفه إلا حينما نمرض.
وبالمثل ما كان ممكنا أن نعرف الجمال لولا القبح ولا الوضع الطبيعي لولا االشاذ.
ولهذا يقول الفيلسوف أبو حامد الغزالي: إن نقص الكون هو عين كماله مثل اعوجاج القوس هو عين صلاحيته ولو أنه استقام لما رمى.
وظيفة أخرى للمشقات والآلام .. أنها هي التي تفرز الناس وتكشف معادنهم.
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
إنها الامتحان الذي نعرف به أنفسنا .. والابتلاء الذي تتحدد به مراتبنا عند الله.
ثم إن الدنيا كلها ليست سوى فصل واحد من رواية سوف تتعدد فصولها فالموت ليس نهاية القص ولكن بدايتها.
ولا يجوز أن نحكم على مسرحية من فصل واحد ولا أن نرفض كتابا لأن الصفحة الأولى لم تعجبنا.
الحكم هنا ناقص..
ولا يمكن استطلاع الحكمة كلها إلا في آخر المطاف .. ثم ما هو البديل الذي يتصوره السائل الذي يسخر منا؟!
هل يريد أن يعيش حياة بلا موت بلا مرض بلا شيخوخة بلا نقص بلا عجز بلا قيود بلا أحزان بلا آلام.
هل يطلب كمالا مطلقا؟!
ولكن الكمال المطلق لله.
والكامل واحد لا يتعدد .. ولماذا يتعدد .. وماذا ينقصه ليجده في واحد آخر غيره؟!
معنى هذا أن صاحبنا لن يرضيه إلا أن يكون هو الله ذاته وهو التطاول بعينه.
ودعونا نسخر منه بدورنا .. هو وأمثاله ممن لا يعجبهم شيء.
هؤلاء الذين يريدونها جنة ..
ماذا فعلوا ليستحقونها جنة؟
وماذا قدم صاحبنا للإنسانية ليجعل من نفسه الله الواحد القهار الذي يقول للشيء كن فيكون.
إن جدتي أكثر ذكاء من الأستاذ الدكتور المتخرج من فرنسا حينما تقول في بساطة:
"خير من الله شر من نفوسنا".
إنها كلمات قليلة ولكنها تلخيص أمين للمشكلة كلها ..
فالله أرسل الرياح وأجرى النهر ولكن ربان السفينة الجشع ملأ سفينته بالناس والبضائع بأكثر مما تحتمل فغرقت فمضى يسب الله والقدر .. وما ذنب الله؟! .. الله أرسل الرياح رخاء وأجرى النهر خيرا .. ولكن جشع النفوس وطمعها هو الذي قلب هذا الخير شرا.
ما أصدقها من كلمات جميلة طيبة.
"خير من الله شر من نفوسنا".
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله . ❝
تقول إن القرآن لا يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه الآية :
( فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر ) 39- الكهف
و الآية الأخرى التي تنقضها :
( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله ) 30- الإنسان
ثم نجد القرآن يقول عن حساب المذنبين إنهم سوف يسألون :
( ستكتب شهادتهم و يسألون ) 19- الزخرف
( و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون ) 44- الزخرف
و مرة أخرى يقول :
( و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) 78- القصص
و أنهم سوف يعرفون بسيماهم :
( فيؤخذ بالنواصى و الأقدام ) 41- الرحمن
ومرة يقول إنه لا أحد سوف يشد وثاق المجرم .
( ولا يوثق وثاقه أحد ) 26- الفجر
بمعنى أن كل واحد سوف يتكفل بتعذيب نفسه .
( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) 14- الإسراء
و مرة يقول :
( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) 32- الحاقة
قلت له :
هذه ليست تناقضات .. و لنفكر فيها معاً ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر .. آية صريحة تشير إلى حرية العبد و اختياره .. و لكن هذه الحرية لم نأخذها من الله غصباً وغلاباً .. و إنما أعطاها إيانا بمشيئته .. فتأتي الآية الثانية لتشرح ذلك فتقول :
( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله )
أي أن حرية العبد "ضمن" مشيئة الرب و ليست ضدها .. أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا الإلهي فتختار المعصية و لكنها لا يمكن أن تناقض المشيئة .. فهي تظل دائماً ضمن المشيئة ، ولو خالفت الرضا .. و هي نقطة دقيقة .. و قلنا إن التسيير الإلهي هو عين التخيبر، لأن الله يختار للعبد من جنس نيته و قلبه.. و معنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته و اختيار قلبه ... أي أن العبد مسير إلى ما اختار .. و معنى ذلك أنه لا إكراه و أنه لا ثنائية و لا تناقض .. و أن التسيير هو عين التخيير .. و هي مسألة من أدق المسائل في فهم لغز المخير و المسير .. و ما تسميه أنت تناقضاً هو في الحقيقة جلاء ذلك السر .
أما الآيات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة ، فهناك من سوف يسأل و تطلب شهادته ، و هناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه ، و هؤلاء هم الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواصى و الأقدام ، و هناك المعاند المنكر الذي سوف تشهد عليه يداه ورجلاه :
( اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) 65- يس
و هناك من سيكون حسيباً على نفسه يعذبها بالندم و يشد وثاقها بالحسرة .. و هو الذي لا يوثق وثاقه أحد .. و هناك أكابر المجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على الله ، و هم يواجهونه و يحلفون الكذب و هم في الموقف العظيم :
( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) 18- المجادلة
و هؤلاء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم و يوثقون في السلاسل .. و أبو حامد الغزالي يفسر هذه السلاسل بأنها سلاسل الأسباب .
- وما رأيك في كلام القرآن عن العلم الإلهي ؟ :
( إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدرى نفس ماذا تكسب غداً و ما تدرى نفس بأي أرض تموت ) 34- لقمان
يقول القرآن إن الله اختص نفسه بهذا العلم لا يعلمه غيره :
( و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) 51- الأنعام
فما بالك الآن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما بالأرحام ، ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكراً أم أنثى .. و ما بالك بالعلماء الذين أنزلوا المطر الصناعي بالأساليب الكيماوية .
- لم يتكلم القرآن عن إنزال المطر وإنما عن إنزال الغيث ، و هو المطر الغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة و إغاثتها و نقلها من حال الجدب إلى حال الخصب و الرخاء .. و المطر بهذه الكميات لا يمكن إنزاله بتجربة .
أما علم الله لما في الأرحام فهو علم كلي محيط و ليس فقط علماً بجنس المولود هل هو ذكر أو أنثى ، و إنما علم بمن يكون ذلك المولود و ما شأنه و ماذا سيفعل في الدنيا ، و ما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت : و هو أمر لا يستطيع أن يعلمه طبيب .
- و ما حكاية كرسي الله الذي تقولون إنه وسع السموات والأرض .. و عرش الله الذي يحمله ثمانية .
- إن عقلك يسع السموات والأرض و أنت البشر الذي لا تذكر .. فكيف لا يسعها كرسي الله .. و الأرض و الشمس و الكواكب و النجوم وا لمجرات محمولة بقوة الله في الفضاء .. فكيف تعجب لحمل عرش ..
- و ما هو الكرسي و ما العرش ؟
- قل لي ما الإلكترون أقل لك ما الكرسي ؟ قل لي ما الكهرباء ؟ قل لي ما الجاذبية ؟ قل لي ما الزمان ؟ إنك لا تعرف ماهية أي شيء لتسألني ما الكرسي و ما العرش ؟ إن العالم مملوء بالأسرار و هذه بعض أسراره .
- و النملة التي تكلمت في القرآن و حذرت بقية النمل من قدوم سليمان و جيشه :
( قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده ) 18- النمل
- لو قرأت القليل عن علم الحشرات الآن لما سألت هذا السؤال .. إن علم الحشرات حافل بدراسات مستفيضة عن لغة النمل و لغة النحل .
و لغة النمل الآن حقيقة مؤكدة .. فما كان من الممكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات الألوف و يتم التنظيم و تنقل الأوامر و التعليمات بين هذا الحشد الحاشد لولا أن هناك لغة للتفاهم ، و لا محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان .. ألم يعرف الإنسان الله ؟
- و كيف يمحو الله ما يكتب في لوح قضائه :
( يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب ) 38- الرعد
أيخطيء ربكم كما نخطيء في الحساب فنمحو و نثبت .. أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا ؟!
- الله يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه :
( إن الحسنات يذهبن السيئات ) 114- هود
و يقول عن عباده الصالحين : ( و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ) 73- الأنبياء
و بذلك يمحو الله دون أن يمحو و هذا سر الآية 39 من سورة الرعد التي ذكرتها .
- و ما رأيك في الآية ؟
( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) 56- الذاريات
هل كان الله في حاجة لعبادتنا ؟!
- بل نحن المحتاجون لعبادته .. أتعبد المرأة الجميلة حباً بأمر تكليف ، أم أنك تلتذ بهذا الحب و تنتشي و تسعد لتذوقك لجمالها ؟
كذلك الله و هو الأجمل من كل جميل إذا عرفت جلاله و جماله و قدره عبدته ، و وجدت في عبادتك له غاية السعادة و النشوة .
إن العبادة عندنا لا تكون إلا عن معرفة .. والله لا يعبد إلا بالعلم .. و معرفة الله هي ذروة المعارف كلها ، و نهاية رحلة طويلة من المعارف تبدأ منذ الميلاد و أول ما يعرف الطفل عند ميلاده هو ثدي أمه ، و تلك أول لذة ، ثم يتعرف على أمه وأبيه و عائلته و مجتمعه و بيئته ، ثم يبدأ في استغلال هذه البيئة لمنفعته ، فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه الثراء و المغانم و الملذات ، فهو يخرج من الأرض الذهب و الماس ، و من البحر اللآليء ، و من الزرع الفواكه و الثمار ، و تلك هي اللذة الثانية في رحلة المعرفة .
ثم ينتقل من معرفته لبيئته الأرضية ليخرج إلى السموات و يضع رجله على القمر ، و يطلق سفائنه إلى المريخ في ملاحة نحو المجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطلاع الكون ، ثم يرجع ذلك الملاح ليسأل نفسه .. و من أنا الذي عرفت هذا كله .. ليبدأ رحلة معرفة جديدة إلى نفسه .. بهدف معرفة نفسه و التحكم في طاقاتها و إدارتها لصالحه و صالح الآخرين ، و تلك لذة أخرى ..
ثم تكون ذروة المعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس .. و بهذه المعرفة الأخيرة يبلغ الإنسان ذروة السعادات ، لأنه يلتقى بالكامل المتعال الأجمل من كل جميل .. تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة .. و كلها ورود و مسرات ..
و إذا كانت في الحياة مشقة ، فلأن قاطف الورود لابد أن تدمي يديه الأشواك .. و الطامع في ذرى اللانهاية لابد أن يكدح إليها .. و لكن وصول العابد إلى معرفة ربه و انكشاف الغطاء عن عينيه .. ما أروعه .
يقول الصوفي لابس الخرقة : " نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف "
تلك هي لذة العبادة الحقة .. و هي من نصيب العابد .. و لكن الله في غنى عنها و عن العالمين .. و نحن لا نعبده بأمر تكليف و لكنا نعبده لأننا عرفنا جماله و جلاله .. و نحن لا نجد في عبادته ذلاً بل تحرراً و كرامة .. تحرراً من كل عبوديات الدنيا .. تحرراً من الشهوات و الغرائز و الأطماع و المال .. و نحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحداً بعده و لا نعود نعبأ بأحد ..
خوف الله شجاعة .. و عبادته حرية .. و الذل له كرامة .. و معرفته يقين و تلك هي العبادة ..
نحن الذين نجني أرباحها و مسراتها .. أما الله فهو الغني عن كل شيء .. إنما خلقنا الله ليعطينا لا ليأخذ منا .. خلقنا ليخلع علينا من كمالاته فهو السميع البصير ، و قد أعطانا سمعاً و بصراً و هو العليم الخبير ، و قد أعطانا العقل لنتزود من علمه ، و الحواس لنتزود من خبرته و هو يقول لعبده المقرب في الحديث القدسى : ( عبد أطعني أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون ) ..
ألم يفعل هذا لعيسى عليه السلام .. فكان عيسى يحي الموتى بإذنه و يخلق من الطين طيراً بإذنه و يشفى الأعمى و الأبرص بإذنه .
العبودية لله إذن هي عكس العبودية في مفهومنا .. فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد ، أما العبودية لله فهي على العكس ، أن يعطى السيد عبده ما لا حدود له من النعم ، و يخلع عليه ما لا نهاية من الكمالات .. فحينما يقول الله : ( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فمعناها الباطن ما خلقت الجن والإنس إلا لأعطيهم و أمنحهم حباً و خيراً ، و كرامة و عزة ، و أخلع عليهم ثوب التشريف و الخلافة .
فالسيد الرب غني مستغن عن عبادتنا .. و نحن المحتاجون إلى هذه العبادة و الشرف ، و المواهب و الخيرات التي لا حد لها .
فالله الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بلا ميعاد ، و نبقى في حضرته ما شئنا و ندعوه ما وسعنا .. بمجرد أن نبسط سجادة الصلاة و نقول "الله أكبر" نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء .
أين هو الملك الذي نستطيع أن ندخل عليه بلا ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء ؟!
و في ذلك يقول مولانا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل :
حسب نفسي عزاً إنني عبد
يحتفل بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز و لكن
أنا ألقى متى وحين أحب
و يقول : أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم "يقصد الصلوات الخمس " و تتعرض للتلف !
و هذه بعض المعاني الباطنة في الآية التي أثارت شكوكك : ( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) و لو تأملتها لما أثارت فيك إلا الذهول و الإعجاب .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
قال صاحبي :
تقول إن القرآن لا يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه الآية :
( فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر ) 39 الكهف
و الآية الأخرى التي تنقضها :
( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله ) 30 الإنسان
ثم نجد القرآن يقول عن حساب المذنبين إنهم سوف يسألون :
( ستكتب شهادتهم و يسألون ) 19 الزخرف
( و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون ) 44 الزخرف
و مرة أخرى يقول :
( و لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ) 78 القصص
و أنهم سوف يعرفون بسيماهم :
( فيؤخذ بالنواصى و الأقدام ) 41 الرحمن
ومرة يقول إنه لا أحد سوف يشد وثاق المجرم .
( ولا يوثق وثاقه أحد ) 26 الفجر
بمعنى أن كل واحد سوف يتكفل بتعذيب نفسه .
( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) 14 الإسراء
و مرة يقول :
( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) 32 الحاقة
قلت له :
هذه ليست تناقضات .. و لنفكر فيها معاً ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر .. آية صريحة تشير إلى حرية العبد و اختياره .. و لكن هذه الحرية لم نأخذها من الله غصباً وغلاباً .. و إنما أعطاها إيانا بمشيئته .. فتأتي الآية الثانية لتشرح ذلك فتقول :
( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله )
أي أن حرية العبد "ضمن" مشيئة الرب و ليست ضدها .. أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا الإلهي فتختار المعصية و لكنها لا يمكن أن تناقض المشيئة .. فهي تظل دائماً ضمن المشيئة ، ولو خالفت الرضا .. و هي نقطة دقيقة .. و قلنا إن التسيير الإلهي هو عين التخيبر، لأن الله يختار للعبد من جنس نيته و قلبه.. و معنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته و اختيار قلبه ... أي أن العبد مسير إلى ما اختار .. و معنى ذلك أنه لا إكراه و أنه لا ثنائية و لا تناقض .. و أن التسيير هو عين التخيير .. و هي مسألة من أدق المسائل في فهم لغز المخير و المسير .. و ما تسميه أنت تناقضاً هو في الحقيقة جلاء ذلك السر .
أما الآيات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة ، فهناك من سوف يسأل و تطلب شهادته ، و هناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه ، و هؤلاء هم الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواصى و الأقدام ، و هناك المعاند المنكر الذي سوف تشهد عليه يداه ورجلاه :
( اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ) 65 يس
و هناك من سيكون حسيباً على نفسه يعذبها بالندم و يشد وثاقها بالحسرة .. و هو الذي لا يوثق وثاقه أحد .. و هناك أكابر المجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على الله ، و هم يواجهونه و يحلفون الكذب و هم في الموقف العظيم :
( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم و يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ) 18 المجادلة
و هؤلاء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم و يوثقون في السلاسل .. و أبو حامد الغزالي يفسر هذه السلاسل بأنها سلاسل الأسباب .
وما رأيك في كلام القرآن عن العلم الإلهي ؟ :
( إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدرى نفس ماذا تكسب غداً و ما تدرى نفس بأي أرض تموت ) 34 لقمان
يقول القرآن إن الله اختص نفسه بهذا العلم لا يعلمه غيره :
( و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) 51 الأنعام
فما بالك الآن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما بالأرحام ، ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكراً أم أنثى .. و ما بالك بالعلماء الذين أنزلوا المطر الصناعي بالأساليب الكيماوية .
لم يتكلم القرآن عن إنزال المطر وإنما عن إنزال الغيث ، و هو المطر الغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة و إغاثتها و نقلها من حال الجدب إلى حال الخصب و الرخاء .. و المطر بهذه الكميات لا يمكن إنزاله بتجربة .
أما علم الله لما في الأرحام فهو علم كلي محيط و ليس فقط علماً بجنس المولود هل هو ذكر أو أنثى ، و إنما علم بمن يكون ذلك المولود و ما شأنه و ماذا سيفعل في الدنيا ، و ما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت : و هو أمر لا يستطيع أن يعلمه طبيب .
و ما حكاية كرسي الله الذي تقولون إنه وسع السموات والأرض .. و عرش الله الذي يحمله ثمانية .
إن عقلك يسع السموات والأرض و أنت البشر الذي لا تذكر .. فكيف لا يسعها كرسي الله .. و الأرض و الشمس و الكواكب و النجوم وا لمجرات محمولة بقوة الله في الفضاء .. فكيف تعجب لحمل عرش ..
و ما هو الكرسي و ما العرش ؟
قل لي ما الإلكترون أقل لك ما الكرسي ؟ قل لي ما الكهرباء ؟ قل لي ما الجاذبية ؟ قل لي ما الزمان ؟ إنك لا تعرف ماهية أي شيء لتسألني ما الكرسي و ما العرش ؟ إن العالم مملوء بالأسرار و هذه بعض أسراره .
و النملة التي تكلمت في القرآن و حذرت بقية النمل من قدوم سليمان و جيشه :
( قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده ) 18 النمل
لو قرأت القليل عن علم الحشرات الآن لما سألت هذا السؤال .. إن علم الحشرات حافل بدراسات مستفيضة عن لغة النمل و لغة النحل .
و لغة النمل الآن حقيقة مؤكدة .. فما كان من الممكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات الألوف و يتم التنظيم و تنقل الأوامر و التعليمات بين هذا الحشد الحاشد لولا أن هناك لغة للتفاهم ، و لا محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان .. ألم يعرف الإنسان الله ؟
و كيف يمحو الله ما يكتب في لوح قضائه :
( يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب ) 38 الرعد
أيخطيء ربكم كما نخطيء في الحساب فنمحو و نثبت .. أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا ؟!
الله يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه :
( إن الحسنات يذهبن السيئات ) 114 هود
و يقول عن عباده الصالحين : ( و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ) 73 الأنبياء
و بذلك يمحو الله دون أن يمحو و هذا سر الآية 39 من سورة الرعد التي ذكرتها .
و ما رأيك في الآية ؟
( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) 56 الذاريات
هل كان الله في حاجة لعبادتنا ؟!
بل نحن المحتاجون لعبادته .. أتعبد المرأة الجميلة حباً بأمر تكليف ، أم أنك تلتذ بهذا الحب و تنتشي و تسعد لتذوقك لجمالها ؟
كذلك الله و هو الأجمل من كل جميل إذا عرفت جلاله و جماله و قدره عبدته ، و وجدت في عبادتك له غاية السعادة و النشوة .
إن العبادة عندنا لا تكون إلا عن معرفة .. والله لا يعبد إلا بالعلم .. و معرفة الله هي ذروة المعارف كلها ، و نهاية رحلة طويلة من المعارف تبدأ منذ الميلاد و أول ما يعرف الطفل عند ميلاده هو ثدي أمه ، و تلك أول لذة ، ثم يتعرف على أمه وأبيه و عائلته و مجتمعه و بيئته ، ثم يبدأ في استغلال هذه البيئة لمنفعته ، فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه الثراء و المغانم و الملذات ، فهو يخرج من الأرض الذهب و الماس ، و من البحر اللآليء ، و من الزرع الفواكه و الثمار ، و تلك هي اللذة الثانية في رحلة المعرفة .
ثم ينتقل من معرفته لبيئته الأرضية ليخرج إلى السموات و يضع رجله على القمر ، و يطلق سفائنه إلى المريخ في ملاحة نحو المجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطلاع الكون ، ثم يرجع ذلك الملاح ليسأل نفسه .. و من أنا الذي عرفت هذا كله .. ليبدأ رحلة معرفة جديدة إلى نفسه .. بهدف معرفة نفسه و التحكم في طاقاتها و إدارتها لصالحه و صالح الآخرين ، و تلك لذة أخرى ..
ثم تكون ذروة المعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس .. و بهذه المعرفة الأخيرة يبلغ الإنسان ذروة السعادات ، لأنه يلتقى بالكامل المتعال الأجمل من كل جميل .. تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة .. و كلها ورود و مسرات ..
و إذا كانت في الحياة مشقة ، فلأن قاطف الورود لابد أن تدمي يديه الأشواك .. و الطامع في ذرى اللانهاية لابد أن يكدح إليها .. و لكن وصول العابد إلى معرفة ربه و انكشاف الغطاء عن عينيه .. ما أروعه .
يقول الصوفي لابس الخرقة : " نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف "
تلك هي لذة العبادة الحقة .. و هي من نصيب العابد .. و لكن الله في غنى عنها و عن العالمين .. و نحن لا نعبده بأمر تكليف و لكنا نعبده لأننا عرفنا جماله و جلاله .. و نحن لا نجد في عبادته ذلاً بل تحرراً و كرامة .. تحرراً من كل عبوديات الدنيا .. تحرراً من الشهوات و الغرائز و الأطماع و المال .. و نحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحداً بعده و لا نعود نعبأ بأحد ..
خوف الله شجاعة .. و عبادته حرية .. و الذل له كرامة .. و معرفته يقين و تلك هي العبادة ..
نحن الذين نجني أرباحها و مسراتها .. أما الله فهو الغني عن كل شيء .. إنما خلقنا الله ليعطينا لا ليأخذ منا .. خلقنا ليخلع علينا من كمالاته فهو السميع البصير ، و قد أعطانا سمعاً و بصراً و هو العليم الخبير ، و قد أعطانا العقل لنتزود من علمه ، و الحواس لنتزود من خبرته و هو يقول لعبده المقرب في الحديث القدسى : ( عبد أطعني أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون ) ..
ألم يفعل هذا لعيسى عليه السلام .. فكان عيسى يحي الموتى بإذنه و يخلق من الطين طيراً بإذنه و يشفى الأعمى و الأبرص بإذنه .
العبودية لله إذن هي عكس العبودية في مفهومنا .. فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد ، أما العبودية لله فهي على العكس ، أن يعطى السيد عبده ما لا حدود له من النعم ، و يخلع عليه ما لا نهاية من الكمالات .. فحينما يقول الله : ( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فمعناها الباطن ما خلقت الجن والإنس إلا لأعطيهم و أمنحهم حباً و خيراً ، و كرامة و عزة ، و أخلع عليهم ثوب التشريف و الخلافة .
فالسيد الرب غني مستغن عن عبادتنا .. و نحن المحتاجون إلى هذه العبادة و الشرف ، و المواهب و الخيرات التي لا حد لها .
فالله الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بلا ميعاد ، و نبقى في حضرته ما شئنا و ندعوه ما وسعنا .. بمجرد أن نبسط سجادة الصلاة و نقول "الله أكبر" نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء .
أين هو الملك الذي نستطيع أن ندخل عليه بلا ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء ؟!
و في ذلك يقول مولانا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل :
حسب نفسي عزاً إنني عبد
يحتفل بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز و لكن
أنا ألقى متى وحين أحب
و يقول : أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم "يقصد الصلوات الخمس " و تتعرض للتلف !
و هذه بعض المعاني الباطنة في الآية التي أثارت شكوكك : ( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) و لو تأملتها لما أثارت فيك إلا الذهول و الإعجاب .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝